اغتيال هنية- البُعد القانوني، السيادة الوطنية، وسياسة الإفلات من العقاب الإسرائيلية

المؤلف: د. محمود الحنفي10.16.2025
اغتيال هنية- البُعد القانوني، السيادة الوطنية، وسياسة الإفلات من العقاب الإسرائيلية

في فجر يوم الحادي والثلاثين من شهر يوليو/ تموز، اهتزت العاصمة الإيرانية طهران على وقع عملية اغتيال استهدفت رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، وأحد مرافقيه. سارعت حركة حماس والحكومة الإيرانية إلى توجيه أصابع الاتهام نحو إسرائيل باعتبارها الجهة المنفذة لهذه العملية الجريئة. ورغم أن هذه العملية لم تكن الأولى من نوعها، إلا أنها اكتسبت صدى واسعًا، إذ اعتُبرت من بين أخطر وأجرأ عمليات الاغتيال التي طالت شخصية بحجم وقيمة إسماعيل هنية، الزعيم المحبوب الذي يحظى بشعبية جارفة في الأوساط الفلسطينية. علاوة على ذلك، مثلت هذه العملية تحديًا سافرًا وانتهاكًا صارخًا للسيادة الإيرانية، حيث تجرأت إسرائيل على اغتيال ضيف رسمي كان مشاركًا في حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، وذلك في ظل ظرف سياسي وأمني بالغ الحساسية تشهده المنطقة.

تجدر الإشارة إلى أن جريمة الاغتيال السياسي تُعدّ من أخطر الجرائم التي تهدد أسس السلم والأمن الدوليين، وهي تتعارض بشكل جلي مع قواعد القانون الدولي الراسخة.

في هذا المقال، نسعى إلى تسليط الضوء على الأبعاد القانونية لهذه العملية الشنيعة، واستعراض الآثار القانونية المترتبة عليها، وذلك بهدف فهم أعمق لتداعياتها على الساحة الدولية.

أولًا: البعد القانوني الدولي

إن القانون الدولي يحظر بشكل قاطع الاغتيال السياسي، ويعتبره استهانة صارخة بحقوق الإنسان الأساسية، ويرتقي إلى مستوى جريمة حرب. حيث تجرّم القوانين الدولية كافة أشكال القتل التي تتم خارج نطاق القانون. وتأكيدًا على ذلك، تنص المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 على أن لكل فرد الحق الأصيل في الحياة والحرية والسلامة الشخصية.

العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية واتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي:

  • المادة 6: الحق في الحياة

تؤكد المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، والذي يعتبر اتفاقية ذات قواعد عرفية وتعاقدية، على أن لكل إنسان الحق الأزلي في الحياة، وأن القانون هو الحامي لهذا الحق، ولا يجوز حرمان أي شخص من حياته بصورة تعسفية.

المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف

تحظر هذه المادة بوضوح الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، ويشمل ذلك القتل والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب. كما تحظر إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون محاكمة قانونية عادلة تضمن كافة الضمانات القضائية الضرورية. وتعتبر هذه المادة حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني، حيث توفر حماية إنسانية أساسية للأشخاص الذين لا يشاركون في النزاعات، وتلزم جميع الأطراف بالحد الأدنى من المعاملة الإنسانية.

المادة 7 من نظام روما الأساسي

تشمل الجرائم ضد الإنسانية الأفعال الوحشية التي ترتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو ممنهج، والهدف منه هو توجيه ضربة قاصمة ضد مجموعة من السكان المدنيين. ويشمل ذلك القتل الذي يندرج ضمن سياسة عامة أو خطة ممنهجة. والاغتيال السياسي يعتبر جريمة ضد الإنسانية إذا كان جزءًا من هجوم واسع النطاق أو ممنهج يستهدف المدنيين أو القادة السياسيين أو النشطاء بطريقة مرتبة ومنظمة.

  • اتفاقيات جنيف ومعاهدات أخرى

تشمل اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 واتفاقية لاهاي الرابعة قوانين صارمة تحظر الاغتيالات، وتعتبرها جرائم خطيرة تهدد السلم والأمن الوطنيين والدوليين. القانون الدولي يحرم أي شكل من أشكال القتل الذي يتم خارج نطاق القانون، ويشمل ذلك الأشخاص الخاضعين لحكومات وطنية أو تحت الاحتلال. ويجيز القانون الدولي اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية لمعاقبة الانتهاكات الجسيمة التي ترتكب في هذا الصدد.

إن اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يعتبر في هذا السياق انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. ويرتقي إلى مستوى جريمة ضد الإنسانية وفق نظام روما الأساسي لعام 2002. وتوجد إمكانية قوية للجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية للرد على هذا الاغتيال، إما ضمن ملف خاص ترفعه دولة فلسطين، أو ضمن الملفات المرفوعة أصلًا.

إن القانون الدولي يحظر بشكل صريح الاغتيالات السياسية لقادة حركات التحرر التي تكافح ضد الاحتلال، وتدافع عن حق تقرير المصير، وهذا الحق يعد من الأحكام الآمرة في القانون الدولي التي لا يجوز مخالفتها. ويعتبر إسماعيل هنية قائدًا سياسيًا لامعًا وذائع الصيت، وبالتالي فإن اغتياله يمثل تعارضًا واضحًا مع القوانين الدولية.

  • ثانيًا: انتهاك مبدأ السيادة الوطنية في إطار ميثاق الأمم المتحدة

في الماضي، كانت دول العالم تتردد كثيرًا قبل اللجوء إلى مهاجمة أهداف خارج حدودها، إلا إذا كانت مستعدة لخوض حروب طويلة ومكلفة، وكانت تعتبر أن القضية تستحق مثل هذه التضحية. لكن هذا الأمر المؤسف أصبح مألوفًا في هذه الأيام.

في السابق، عندما كانت تضطر أي دولة إلى القيام بعمل عدائي من هذا القبيل، والذي ينطوي على استهانة بالدولة الأخرى، وانتهاك صارخ لسيادتها، واستفزاز لمشاعر شعبها الوطنية، فإنها كانت تسبق ذلك بإرسال تحذيرات رسمية للدولة المعنية، ثم تقدم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي، توضح فيها التهديد الذي تتعرض له من تلك الدولة، قبل الإقدام على شنّ هجوم عسكري؛ وذلك لأن هناك تبعات وخيمة لأي هجوم عسكري خارجي.

يعاني النظام الدولي الحالي من أزمات متفاقمة وعميقة، والقوة العظمى التي تقوده تبدو عاجزة عن إيجاد حلول لهذه الأزمات المتراكمة. إن استمرار هذا الوضع المتردي قد يؤدي إلى اندلاع حرب عالمية جديدة، وذلك بسبب عدم وجود حلول ناجعة للأزمات المتفاقمة.

إن فكرة أن الدول الكبرى لن ترغب في الانزلاق إلى حرب عالمية جديدة أمر غير مقبول على الإطلاق. فالحروب لا تندلع بالضرورة بسبب الرغبة فيها، بل بسبب فشل القادة في إدارة الأزمات وحلها سلميًا، والحرب الدائرة في غزة تعتبر نموذجًا صارخًا ومثالًا حيًا على ذلك.

لقد استمد مفهوم السيادة الدولية جذوره من معاهدة وستفاليا الشهيرة عام 1648، والتي أسست كيانات مستقلة ذات سيادة كاملة على شؤونها الداخلية والخارجية. وميثاق الأمم المتحدة الذي تأسس عام 1945 بعد نهاية الحرب العالمية الثانية نص في مادته 2/1 على مبدأ السيادة، مؤكدًا عدم تدخل المنظمة في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء. ورغم ذلك، شهدت العلاقات الدولية تأثيرات جمة من منظمة الأمم المتحدة، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشرقي، حيث أصبحت بعض القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تفرض سيطرتها بشكل شبه مطلق على مسار الأحداث.

إن ميثاق الأمم المتحدة لم يكتفِ بتأكيد مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء، بل سعى أيضًا إلى تعزيز هذا المبدأ النبيل عبر تحريم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بما في ذلك من قبل الأمم المتحدة نفسها. كما نصت المادة 2/7 من الميثاق على أنه لا يجوز للأمم المتحدة أن تتدخل في الأمور التي تعتبر من صميم السلطان الداخلي لأي دولة عضو.

  • ثالثًا: الأسس القانونية الإسرائيلية لتبرير سياسة الاغتيال

تتبنّى إسرائيل سياسة رسمية ومتصاعدة لتنفيذ عمليات الاغتيال بحق نشطاء وقادة فلسطينيين، وتستند في ذلك إلى تبريرات باطلة حول "الحق في الدفاع عن النفس" وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. وفي حقيقة الأمر، فإن هذه السياسة العدوانية هي جزء لا يتجزأ من إستراتيجية أمنية قديمة تهدف إلى مواجهة التهديدات المتوقعة، حيث تعتبرها وسيلة مشروعة لتحقيق الأمن المزعوم، وتقليل المخاطر بحق مواطنيها وجنودها في إطار الأمن الوقائي. ومع ذلك، فقد لاقت مثل هذه التبريرات رفضًا وانتقادات واسعة النطاق لتعارضها الصارخ مع روح القانون الدولي وأحكامه.

أصدرت محكمة العدل العليا في إسرائيل عام 2006 قرارًا يسمح للجيش بتنفيذ عمليات اغتيال النشطاء الفلسطينيين بدعوى الدفاع عن أمن الإسرائيليين. وقد ارتفعت معدلات الاغتيال بشكل ملحوظ خلال العقدين الماضيين، وأصبحت سياسة واضحة المعالم خلال الحرب الحالية على غزة. وليس من الغريب أن يكون اسم جيشها: "جيش الدفاع الإسرائيلي"، مع أن كل حروبه كانت هجومية. وتبرر إسرائيل هذه العمليات ضمن إطار أخلاقي وقانوني مزعوم.

وتنفذ عمليات الاغتيال بطرق تفتقر إلى الحد الأدنى من الشفافية القانونية، والحق في المحاكمة العادلة، وغالبًا ما تؤدي إلى مقتل العشرات من المدنيين الأبرياء عند استهداف شخصية سياسية أو عسكرية. وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أقرّ جيش الاحتلال الإسرائيلي علنًا بإمكانية قتل ناشط صغير في حماس حتى لو أدى ذلك لمقتل 20 مدنيًا، والسماح بقتل أكثر من 100 مدني مقابل اغتيال قائد كبير في حماس، وهو اعتراف صريح بسياسة القتل العشوائي.

تعتمد سياسة الاغتيالات على مفهوم "المقاتل غير الشرعي"، الذي يعني أن أي شخص ينشط في منظمة "إرهابية" يمكن اعتباره هدفًا مشروعًا حتى لو كان نشاطه هامشيًا. ويُعتقد أن "المقاتل غير الشرعي" لا يتمتع بأي حق من حقوق المقاتلين أو أفراد حركات التحرر الوطني أو الجيش النظامي، وأنه لا يتمتع بالحصانة الجنائية، وهو ما يمثل مخالفة صريحة للقانون الدولي الإنساني.

  • رابعًا: التوترات الإقليمية في المنطقة وسياسة الإفلات من العقاب

إن سياسة القتل المنهجي التي ترتكبها إسرائيل بحق سكان قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة ولبنان، والتعامل الوحشي واللاإنساني مع الأسرى الفلسطينيين، وتجاهلها المتعمد لقواعد القانون الدولي وقرارات مؤسساته ومحاكمه، ثم ممارسة سياسة الاغتيال بحقّ قادة حركات التحرر الوطني والاعتداء السافر على سيادة الدول، ورغم ذلك كله تفلت من العقاب، كل ذلك يعزز شريعة الغاب ويزيد من إضعاف الأمم المتحدة، كما يؤسس لمزيد من الحروب والصراعات الدامية.

إن الآثار المتوقعة لهذه الجريمة الشنعاء وتغاضي المجتمع الدولي المخزي عنها تشمل زعزعة الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة والعالم بأسره، وزيادة حدة الصراعات وتعميقها. كما أن هذه العمليات الإجرامية ستشجع على مزيد من عمليات الاغتيال، وستعزز شعور إسرائيل بأنها بمنأى عن أية مساءلة قانونية. إن خرق مبدأ سيادة الدول سيقوض الأسس القانونية التي استقر عليها العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

إنه من الضروري والملح أن يتدخل المجتمع الدولي لوقف حفلة الجنون الإسرائيلية، وأن يتحرك بشكل فوري لكبح جماح نتنياهو وحكومته المتطرفة قبل فوات الأوان، وقبل أن تتدهور الأوضاع إلى مستويات لا يمكن السيطرة عليها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة